فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت اذ نادى وهو مكظوم}
وها هنا سؤال نافع وهو أن يقال ما العامل في الظرف وهو قوله: {اذ نادى} ولا يمكن أن يكون الفعل المنهى عنه اذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به فقال: {وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين}.
وفي الترمذى وغيره عن النبي أنه قال «دعوة أخى ذى النون اذ دعا بها في بطن الحوت ما دعا بها مكروب الا فرج الله عنه لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين» فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذي نادى به ربه وانما نهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذي نادى به ربه وانما ينهى عن التشبه به في السبب الذي أفضى به إلى هذه المناداة وهى مغاضبته التي أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم والكظيم والكاظم الذي قد امتلأ غيظا وغضبا وهما وحزنا وكظم عليه فلم يخرجه.
فإن قيل وعلى ذلك فما العامل في الظرف قيل ما في صاحب الحوت من معنى الفعلفإن قيل فالسؤال بعد قائم فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهى فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال أو هذا الوقت كان نهيا عن تلك الحالة.
قيل لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت فنهى أن يشبه به في الحال التي أفضت به إلى صحبته الحوت والنداء وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه تعالى ولم يقل تعالى ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت فنادى بل طوى القصة واختصرها وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر واكتفي بغايتها وما انتهت اليه.
فان قيل فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه أى لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى عليه قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر لا نداء كظيم قيل هذا المعنى وان كان صحيحا الا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده وانما نهى عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضبا حتى سجن في بطن الحوت ويدل عليه قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك} ثم قال: {ولا تكن كصاحب الحوت} أى في ضعف صبره لحكم ربه فان الحالة التي نهى عنها هي ضد الحالة التي أمر بها.
فإن قيل فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكونى القدرى الذي يقدره عليه ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر عليه بل نادى وهو كظيم لكشفه فلم يصبر على احتماله والسكون تحته.
قيل منع من ذلك أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم اياه كشف ما بهم من الضر وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله: {وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له فنجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين} فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به وكذلك أثنى على أيوب بقوله: {مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين} وعلى يعقوب بقوله: {انما أشكو بثى وحزنى إلى الله} وعلى موسى بقوله: {رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير} وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله: «اللهم أشكو اليك ضعف قوتى وقلة حيلتى» الحديث فالشكوى إليه سبحانه لا تنافي الصبر الجزيل بل اعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة وجعل الشكوى إليه وحده هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع اليه وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به اليه وقيل لبعضهم كيف تشتكى اليه ما ليس يخفي عليه فقال ربى يرضى ذل العبد اليه.
والمقصود أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولى العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا وهذا أكمل الصبر ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإن قيل أى انواع الصبر الثلاثة أكمل الصبر على المأمور أم الصبر عن المحظور أم الصبر على المقدور.
قيل الصبر المتعلق بالتكليف وهو الأمر والنهى أفضل من الصبر على مجرد القدر فان هذا الصبر يأتى به البر الفاجر والمؤمن والكافر فلابد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارا أو اضطرارا.
وأما الصبر على الاوامر والنواهى فصبر أتباع الرسل وأعظمهم اتباعا أصبرهم في ذلك وكل صبر في محله وموضعه أفضل فالصبر عن الحرام في محله أفضل وعلى الطاعة في محلها أفضل.
فإن قيل أى الصبرين أحب إلى الله صبر من يصبر على أوامره أم صبر من يصبر عن محارمه.
قيل هذا موضع تنازع فيه الناس فقالت طائفة الصبر عن المخالفات أفضل؛ لأنه أشق وأصعب فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن المخالفات إلا الصديقون قالوا ولأن الصبر عن المحرمات صبر على مخالفة هوى النفس وهو أشق شيء وأفضله قالوا ولأن ترك المحبوب الذي تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب اليه من نفسه وهواه بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك قالوا وأيضا فالمروءة والفتوة كلها في هذا الصبر.
قال الإمام أحمد الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى فمروءة العبد وفتوته بحسب هذا الصبر قالوا وليس العجب ممن يصبر على الأوامر فإن أكثرها محبوبات للنفوس السليمة لما فيها من العدل والإحسان والإخلاص والبر وهذه محاب للنفوس الفاضلة الزكية بل العجب ممن يصبر عن المناهي التي أكثرها محاب للنفوس فيترك المحبوب العاجل في هذه الدار للمحبوب الآجل في دار أخرى والنفس موكلة بحب العاجل فصبرها عنه مخالف لطبعها.
قالوا ولأن المناهى لها أربعة دواع تدعو اليها نفس الإنسان وشيطانه وهواه ودنياه فلا يتركها حتى يجاهد هذه الأربعة وذلك أشق شيء على النفوس وأمره قالوا فالمناهى من باب حمية النفوس عن مشتهياتها ولذاتها والحمية مع قيام داعى التناول وقوته من أصعب شيء وأشقه قالو أو لذلك كان باب قربان النهى مسدودا كله وباب الامر انما يفعل منه المستطاع كما قال النبي «اذا أمرتكم بأمر فاءتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» فدل على ان باب المنهيات أضيق من باب المأمورات وانه لم يرخص في ارتكاب شيء منه كما رخص في ترك بعض المأمورات للعجز والعذر قالوا ولهذا كانت عامة العقوبات من الحدود وغيرها على ارتكاب المنهيات بخلاف ترك المأمور فإن الله سبحانه لم يرتب عليه حدا معينا فأعظم المأمورات الصلاة وقد اختلف العلماء هل على تاركها حد أم لا فصل، فهذا بعض ما احتجت به الطائفة وقالت طائفة أخرى بل الصبر على فعل المأمور أفضل وأجل من الصبر على ترك المحظور لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الامرين أفضل وأعلى. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
ومِنْ سُورةِ نُونٍ:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {ولا تُطِعْ كُلّ حلّافٍ مهِينٍ}
قِيل: (منْ يحْلِفُ بِاللّهِ كاذِبا)، وسمّاهُ مهِينا لِاسْتِجازتِهِ الْكذِب والْحلِف عليْهِ، والْحلّافُ اسْمٌ لِمنْ أكْثر الْحلِف بِحقٍّ أوْ باطِلٍ، وقدْ نهى اللّهُ عنْ ذلِك بِقولهِ: {ولا تجْعلُوا اللّه عُرْضة لِأيْمانِكُمْ}.
وقوله تعالى: {همّازٍ مشّاءٍ بِنمِيمٍ}، يعْنِي: وقّاعا فِي النّاسِ عائِبا لهُمْ بِما ليْس فِيهِمْ وقولهُ: {مشّاءٍ بِنمِيمٍ} يعْنِي ينْقُلُ الْكلام مِنْ بعْضٍ إلى بعْضٍ على وجْهِ التّضْرِيبِ بيْنهُمْ وقال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يدْخُلُ الْجنّة قتّاتٌ» يعْنِي النّمّام.
وقوله تعالى: {عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ} قِيل فِي الْعُتُلِّ: إنّهُ الْفظُّ الْغلِيظُ، والزّنِيمُ الدّعِيُّ وحدّثنا عبْدُ الْباقِي بْنُ قانِعٍ قال: حدّثنا الْحُسيْنُ بْنُ إِسْحاق التُّسْتُرِيُّ قال: حدّثنا الْولِيدُ بْنُ عُتْبة قال: حدّثنا الْولِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قال: حدّثنا أبُو شيْبة إبْراهِيمُ بْنُ عُثْمان عنْ عُثْمان بْنِ عُميْرٍ البجلي عنْ شهْرِ بْنِ حوْشبٍ عنْ شدّادِ بْنِ أوْسٍ قال: قال رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يدْخُلُ الْجنّة جوّاظٌ ولا جعظري ولا عُتُلٌّ زنِيمٌ»، قُلْت: وما الْجوّاظُ؟ قال: «كُلُّ جمّاعٍ»، قُلْت: وما الجعظري؟ قال: «الْفظُّ الْغلِيظُ»، قُلْت: وما الْعُتُلُّ الزّنِيمُ؟ قال: «رحْبُ الْجوْفِ».
آخِرُ سُورةِ نُونٍ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة القلم فِيها ثلاثُ آياتٍ:
الْآيةُ الْأُولى قوله تعالى: {ن والْقلمِ وما يسْطُرُون} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى:
روى الْولِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عنْ أنسِ بْنِ مالِكٍ عنْ سمِيٍّ موْلى أبِي بكْرٍ عنْ أبِي صالِحٍ، عنْ أبِي هُريْرة قال: سمِعْت رسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «أوّلُ ما خلق اللّهُ الْقلم، ثُمّ خلق النُّون، وهِي الدّواةُ، وذلِك قولهُ: {ن والْقلمِ}؛ ثُمّ قال: اُكْتُبْ. قال: وما أكْتُبُ؟ قال: ما كان وما هُو كائِنٌ إلى يوْمِ الْقِيامةِ مِنْ عملٍ، أوْ أجلٍ، أوْ رِزْقٍ، أوْ أثرٍ؛ فجرى الْقلمُ بِما هُو كائِنٌ إلى يوْمِ الْقِيامةِ، ثُمّ ختم على الْقلمِ فلمْ ينْطِقْ، ولا ينْطِقُ إلى يوْمِ الْقِيامةِ، ثُمّ خلق الْعقْل فقال الْجبّارُ: ما خلقْت خلْقا أعْجب إليّ مِنْك، وعِزّتِي وجلالِي لأُكمِّلنّك فِيمنْ أحْببْت، ولأُنْقِصنّك فِيمنْ أبْغضْت، ثُمّ قال رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أكْملُ النّاسِ عقْلا أطْوعُهُمْ لِلّهِ وأعْملُهُمْ بِطاعتِهِ».
المسألة الثّانِيةُ:
خلق اللّهُ الْقلم الْأوّل، فكتب ما يكُونُ فِي الذِّكْرِ، ووضعهُ عِنْدهُ فوْق عرْشِهِ، ثُمّ خلق الْقلم الثّانِي لِيُعلِّم بِهِ منْ فِي الْأرْضِ على ما يأْتِي بيانُهُ فِي سُورةِ: {اقرأ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق} إنْ شاء اللّهُ تعالى.
الْآيةُ الثّانِيةُ: {ودُّوا لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى:
ذكر الْمُفسِّرُون فِيها نحْو عشْرةِ أقْوالٍ، كُلُّها دعاوى على اللُّغةِ والْمعْنى، أمْثلُها قولهُمْ: ودُّوا لوْ تكْذِبُ فيكْذِبُون.
ودُّوا لوْ تكْفُرُ فيكْفُرُون.
وقال أهْلُ اللُّغةِ: الْإِدْهانُ هُو التّلْبِيسُ، معْناهُ: ودُّوا لوْ تلْبِسُ إليْهِمْ فِي عملِهِمْ وعقْدِهِمْ فيمِيلُون إليْك.
وحقِيقةُ الْإِدْهانِ إظْهارُ الْمُقاربةِ مع الِاعْتِقادِ لِلْعداوةِ؛ فإِنْ كانتْ الْمُقاربةُ بِاللِّينِ فهِي مُداهنةٌ، وإِنْ كانتْ مع سلامةِ الدِّينِ فهِي مُداراةٌ أيْ مُدافعةٌ.
وقدْ ثبت فِي الصّحِيحِ عنْ عائِشة أنّهُ اسْتأْذن على النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رجُلٌ فقال: «ائْذنُوا لهُ، بِئْس أخُو الْعشِيرةِ هُو، أوْ ابْنُ الْعشِيرةِ»؛ فلمّا دخل ألان لهُ الْكلام، فقُلْت لهُ: يا رسُول اللّهِ؛ قُلْت ما قُلْت، ثُمّ ألنْت لهُ فِي الْقول، فقال لِي: «يا عائِشةُ؛ إنّ شرّ النّاسِ منْزِلة منْ تركهُ أوْ ودعهُ النّاسُ اتِّقاء فُحْشِهِ».
وقدْ ثبت أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثلُ الْمُداهِنِ فِي حُدُودِ اللّهِ والْقائِمِ عليْها كمثلِ قوْمٍ اسْتهمُوا فِي سفِينةٍ، فأصاب بعْضُهُمْ أعْلاها، وأصاب بعْضُهُمْ أسْفلها، فأراد الّذِين فِي أسْفلِها أنْ يسْتقُوا الْماء على الّذِين فِي أعْلاها فمنعُوهُمْ، فأرادُوا أنْ يسْتقُوا الْماء فِي أسْفلِ السّفِينةِ، فإِنْ منعُوهُمْ نجوْا، وإِنْ تركُوهُمْ هلكُوا جمِيعا».
وقدْ قال الله تعالى: {أفبِهذا الْحديث أنْتُمْ مُدْهِنُون}.
قال الْمُفسِّرُون: يعْنِي مُكذِّبُون، وحقِيقتُهُ ما قدّمْناهُ أيْ أفبِهذا الْحديث أنْتُمْ مُقارِبُون فِي الظّاهِرِ مع إضْمارِ الْخِلافِ فِي الْباطِنِ، يقولون: اللّهُ، اللّهُ.
ثُمّ يقولون: مُطِرْنا بِنجْمِ كذا،
ونوْءِ كذا، ولا يُنزِّلُ الْمطر إلّا اللّهُ سبحانه غيْر مُرْتبِطٍ بِنجْمٍ ولا مُقْترِنٍ بِنوْءٍ.
وقدْ بيّنّاهُ فِي موْضِعِهِ.
المسألة الثّانِيةُ:
قال اللّهُ سبحانه: {لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون} فساقهُ على الْعطْفِ، ولوْ جاء بِهِ جوابُ التّمنِّي لقال فيُدْهِنُوا، وإِنّما أراد أنّهُمْ تمنّوْا لوْ فعلْت فيفْعلُون مِثْل فِعْلِك عطْفا، لا جزاء عليْهِ، ولا مُكافأة لهُ، وإِنّما هُو تمْثِيلٌ وتنْظِيرٌ.
الْآيةُ الثّالِثةُ: {سنسِمُهُ على الْخُرْطُومِ} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى:
{سنسِمُهُ على الْخُرْطُومِ}: ذكر فِيهِ أهْلُ التّفْسِيرِ قوليْنِ: أحدُهُما أنّها سِمةٌ سوْداءُ تكُونُ على أنْفِهِ يوْم الْقِيامةِ يُميّزُ بِها بيْن النّاسِ.
وهذا كقولهِ: {يُعْرفُ الْمُجْرِمُون بِسِيماهُمْ}.
وقِيل: يُضْربُ بِالنّارِ على أنْفِهِ يوْم الْقِيامةِ يعْنِي وسْما يكُونُ علامة عليْهِ.
وقدْ قال تعالى: {يوْم تبْيضُّ وُجُوهٌ وتسْودُّ وُجُوهٌ}؛ فهذِهِ علامةٌ ظاهِرةٌ.
وقال: {ونحْشُرُ الْمُجْرِمِين يوْمِئِذٍ زُرْقا يتخافتُون بيْنهُمْ إنْ لبِثْتُمْ إلّا عشْرا} وهذِهِ علامةٌ أُخْرى ظاهِرةٌ، فأفادتْ هذِهِ الْآيةُ علامة ثالِثة وهِي الْوسْمُ على الْخُرْطُومِ مِنْ جملة الْوجْهِ.
المسألة الثّانِيةُ:
قولهُ: {سنسِمُهُ}: كان الْوسْمُ فِي الْوجْهِ لِذوِي الْمعْصِيةِ قدِيما عِنْد النّاسِ حتّى أنّهُ رُوِي كما تقدّم أنّ الْيهُود لمّا أهْملُوا رجْم الزّانِي واعْتاضُوا عنْهُ بِالضّرْبِ وتحْمِيمِ الْوجْهِ، وهذا وضْعٌ باطِلٌ.
ومِنْ الْوسْمِ الصّحِيحِ فِي الْوجْهِ ما رأى الْعُلماءُ مِنْ تسْوِيدِ وجْهِ شاهِدِ الزُّورِ علامة على قُبْحِ الْمعْصِيةِ، وتشْدِيدا لِمنْ يتعاطاها لِغيْرِهِ مِمّنْ يُرْجى تجنُّبُهُ بِما يُرْجى مِنْ عُقُوبةِ شاهِدِ الزُّورِ وشُهْرتِهِ.
وقدْ كان عزِيزا بِقول الْحقِّ، وقدْ صار مهِينا بِالْمعْصِيةِ؛ وأعْظمُ الْإِهانةِ إهانةُ الْوجْهِ، وكذلِك كانتْ الِاسْتِهانةُ بِهِ فِي طاعةِ اللّهِ سببا لِحياةِ الْأبدِ، والتّحْرِيمِ لهُ على النّارِ؛ فإِنّ اللّه قدْ حرّم على النّارِ أنْ تأْكُل مِنْ ابْنِ آدم أثر السُّجُودِ، حسْبما ثبت فِي الصّحِيحِ. اهـ.